مؤتمر بغداد الدولي الخامس للمياه: مبادرة “السلام الأزرق في الشرق الأوسط” وحوارات المياه

مؤتمر بغداد الدولي الخامس للمياه: مبادرة “السلام الأزرق في الشرق الأوسط” وحوارات المياه

في العقود الأخيرة، باتت أزمة المياه واحدة من أخطر التحديات التي تواجه منطقة الشرق الأوسط، حيث تتقاطع أزمات التغير المناخي، وسوء الإدارة، والنمو السكاني، مع توترات سياسية حادة بين الدول المتشاطئة. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 60 مليون شخص في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يعيشون بالفعل تحت خط ندرة المياه الشديدة، وسط توقعات بأن يتضاعف الضغط على الموارد المائية بحلول عام 2050 بسبب تغير المناخ والطلب المتزايد على الغذاء والطاقة.

في قلب هذه الأزمة يقع العراق، البلد الذي كان يُعرف تاريخيًا بـ”أرض السواد” بسبب وفرة مياهه وخصوبة أراضيه، لكنه اليوم يواجه تحديات حادة في ملف المياه. فبحسب وزارة الموارد المائية العراقية، انخفضت تدفقات نهري دجلة والفرات بنسبة تقارب 50% مقارنةً بما كانت عليه قبل نحو ثلاثين عامًا، بينما سجّلت مستويات المياه خلال العامين الأخيرين انخفاضًا حادًا وغير مسبوق، لتصل إلى نصف المعدلات الطبيعية فقط.

ويُعزى هذا التدني إلى جملة من العوامل، أبرزها بناء عدد من السدود الكبرى من قِبل تركيا على أعالي النهر قرب الحدود مع العراق، ما حدّ من كميات المياه المتدفقة. كما ساهمت إيران في تفاقم الأزمة من خلال تحويل أو إغلاق بعض الروافد المغذية للنهر، إلى جانب التراجع الملحوظ في معدلات الأمطار، وتأثيرات التغير المناخي المتزايدة، فضلًا عن وجود خلل مستمر في إدارة الموارد المائية محليًا، بما يشمل الهدر ونقص الاستثمارات في البنى التحتية.

هذا الانخفاض في الموارد المائية لا يهدد فقط الأمن الغذائي والاقتصادي للبلاد، بل يرفع أيضًا من احتمالية اندلاع نزاعات داخلية وإقليمية مع استمرار الضغط على هذا المورد الحيوي.

 

 

وفي ظل هذه المعطيات، تبرز مبادرة السلام الأزرق في الشرق الأوسط كنهج مبتكر في دبلوماسية المياه، تسعى إلى تحويل المياه من مصدرًا محتملًا للصراع إلى أداة للتعاون والسلام، وذلك من خلال آليات الحوار، وتبادل المعرفة، وبناء الثقة بين الجهات الفاعلة.

 

نبذة عن مبادرة السلام الازرق في الشرق الأوسط:

هي مبادرة إقليمية غير حكومية تهدف إلى تحويل المياه من مصدر محتمل للصراع إلى أداة للتعاون والسلام. تأسست في عام 2010 بدعم من مجموعة الاستشراف الاستراتيجي (SFG) ووكالة التعاون السويدية للتنمية (SIDA) والوكالة السويسرية للتنمية والتعاون (SDC).

تتمثل أهداف المبادرة في تعزيز التعاون المائي عبر الحدود، وتحسين الأمن المائي والغذائي والطاقة، والحفاظ على النظم البيئية في مواجهة التغير المناخي. وتشمل مشاريعها البارزة برنامج “نظام WEFE” (المياه والطاقة والغذاء والنظم البيئية)، وبرنامج الزمالة للشباب، ومشاريع تحسين كفاءة استخدام المياه في الزراعة، وبرنامج الإعلاميين الشباب.

من أبرز إنجازاتها في العراق:

  • إطلاق مشروع تقييم وإدارة مشترك للأهوار (CAMAAM) في العراق عام 2024.
  • دعم العراق ليصبح أول دولة في الشرق الأوسط تنضم إلى اتفاقية الأمم المتحدة للمياه في 2023.
  • رعاية المؤتمر الدولي للمياه في بغداد لثلاث سنوات متتالية .
  • تسهيل الحوار والتعاون بين العراق والدول المجاورة، لا سيما تركيا، لمواجهة التحديات المائية المشتركة. ويتضمن ذلك جهودًا لإعادة تأهيل محطات الرصد وتعزيز اتخاذ القرارات المشتركة القائمة على البيانات.

تعمل المبادرة حاليًا على تنفيذ مشاريع تجريبية في حوض ديالى بالعراق، وتوسيع نطاقها ليشمل إيران وسوريا، بهدف تعزيز التعاون الإقليمي في مجال المياه .

 

تأكيد التزام العراق بالدبلوماسية المائية والشراكات الإقليمية

احتضنت أجندة المؤتمر ورشة نقاشية بعنوان “الحراك الدبلوماسي العراقي في إطار التعاون الدولي والأحواض المشتركة”، نظمتها وزارة الخارجية العراقية، بمشاركة ممثلين رفيعي المستوى من وزارة الموارد المائية. تضمنت الورشة مداخلات لعدد من الشخصيات الرسمية، أبرزهم المهندس حسين عبد الأمير بكه، وكيل وزارة الموارد المائية، و عضو اللجنة الاستشارية للسياسات للعراق في مبادرة السلام الأزرق في الشرق الأوسط، الذي شدد على أهمية تعزيز الأطر التفاوضية الثنائية والمتعددة الأطراف لإدارة المياه العابرة للحدود، خاصة مع استمرار التحديات في ملف نهري دجلة والفرات.

من جانبها، أكدت وزارة الخارجية، ممثلة بالسفير هشام العلوي، وكيل الوزارة لشؤون التخطيط السياسي، على أن الدبلوماسية المائية أصبحت اليوم أداة استراتيجية أساسية لحماية الأمن القومي، موضحًا أن العراق بدأ بتكثيف جهوده في بناء تحالفات إقليمية قائمة على الحوار والشفافية، ومن ضمنها دعمه الكامل لمبادرات مثل مبادرة السلام الأزرق في الشرق الأوسط ، التي تنسجم مع التوجهات العراقية لتعزيز التعاون بدل التصعيد.

جاءت هذه الجلسة تأكيدًا على أن العراق لا يقف موقف المتفرج في أزمة المياه، بل يسعى ليكون طرفًا فاعلًا في بناء الحلول، معتمدًا على أدوات الحوار الإقليمي والمبادرات الداعمة للسلام والتعاون، ما يعكس نضوجًا في الرؤية العراقية تجاه دبلوماسية الموارد العابرة للحدود.

 

جلسة السلام الأزرق تفتح آفاق التعاون في الشرق الأوسط

تستمر بغداد في ترسيخ مكانتها كمركز إقليمي للحوار حول قضايا المياه، وهو ما تجلى بوضوح في مؤتمر بغداد الدولي الخامس للمياه، لم يكن المؤتمر مجرد تجمع لخبراء المياه، بل منصة لتعزيز التعاون الإقليمي وتبادل الرؤى حول أحد أبرز التحديات التي تواجه المنطقة: الأمن المائي.

وكانت أبرز فعاليات المؤتمرالجلسة الرفيعة المستوى تحت عنوان “تحويل إدارة المياه الجوفية العابرة للحدود: العلم والتكنولوجيا في العمل”.  كانت هذه الجلسة بمثابة بوصلة تحدد اتجاهات النقاشات المستقبلية للمؤتمر، مؤكدة على أهمية المفهوم الشامل للسلام المائي الذي يربط بين الأمن والاستقرار والتنمية.

 

لقد ضمّت هذه الجلسة نخبة من الشخصيات المؤثرة والخبراء البارزين في مجال المياه، وهو ما عكس الرغبة في إثراء النقاشات بمنظورات متعددة. فمن الدكتور مروان الرقاد، مدير الشبكة الإسلامية لتنمية وإدارة مصادر المياه، إلى الدكتور متوكل عبيدات، مدير مركز دبلوماسية المياه، مروراً بالدكتور إيهاب جناد، رئيس قسم الموارد المائية في منظمة المركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة (أكساد)، إلى المهندس مفلع العلاوين، مستشار التعاون الإقليمي في مجال المياه الإقليمية للوكالة السويسرية للتنمية والتعاون، اجتمع قادة الفكر لتبادل الخبرات والرؤى حول كيفية تحقيق رؤية مبادرة السلام الأزرق في الشرق الأوسط في منطقة تعاني من ندرة المياه.

تأتي أهمية هذه الجلسة من تركيزها على بعدين أساسيين: السلام الأزرق كإطار للتعاون وتجنب النزاعات على الموارد المائية، والشبكة الإسلامية كمنصة محتملة لتعزيز هذا التعاون بين الدول ذات الغالبية المسلمة التي تشترك في تحديات مائية متشابهة. هذه المحاور تشير إلى توجه استراتيجي نحو إيجاد حلول جماعية ومستدامة للتحديات المائية، مع الأخذ في الاعتبار الأبعاد الاجتماعية والثقافية.